مقالات الرأي والأعمدة

الفاتح عروة .. سلامٌ عليه في الغياب، كما كان سلامًا في حضوره بقلم: الطيب علي فرح

في ابريل من العام 2017، كان لقائي الأول مع الفريق الفاتح عروة، قبيل انتقالي إلى شركة زين قادمًا من شركة MTN للاتصالات.

كان اسمه يسبق حضوره، تتداوله الألسن في القصص عن شخصيته الحاسمة، وتاريخه المهني الطويل، وعلاقاته القوية في قطاعات الأمن والسياسة والاتصالات.

كنت أظن أنني أعرفه، استنادًا إلى ما قرأته وسمعته. فرسمت صورة ذهنية لرجل جاف، مغرور، وربما متعالٍ… تماما مثل تلك الحكايات غير المكتملة التي تُروى عنه فتظلمه الأحكام والظنون.

كنت أتوقع لقاءً رسميًا صارمًا، تحفّه الهيبة وتُظلّله الجدية. وهيأت نفسي لمواجهة صعبة، ورفعت بيني وبينه جدارًا من التوقعات.

لكن ما إن دلفت مكتبه، حتى سقط كل شيء.

ابتسم، ونهض واقفًا، مدّ يده لي وقال: “أهلاً بابني الحبيب”.

تلك الجملة البسيطة كسرت الحواجز، وأرست أسس لعلاقة لم تكن بين رئيس تنفيذي وموظف، بل بين أب وأبنه، علمت لاحقًا أنها كانت عادته الدائمة؛ فقد كان ينادي كثيرًا من الزملاء بالعبارة نفسها، دون تكلف أو تصنع.

كان الفريق الفاتح عروة يؤمن بأن الاحترام لا يُنتزع، بل يُمنح، وأن القيادة الحقيقية لا تحتاج إلى رفع الصوت ولا فرض الرأي، فهذه أسلحة خاسرة.. سريعا ما تنتهي ذخيرتها.

دعاني للجلوس، وابتدر الحديث بسؤال مباغت:
“بتعرفني؟”
فأجبته ممازحًا: “والله يا سعادتك أنا (الفريق) الوحيد القابلته في حياتي، يمكن يكون (فريق كورة)!”
فانفجر ضاحكًا…

وقتها، كنت في حيرة من أمري. المزايا المالية في عملي كانت أفضل، والدرجة الوظيفية في زين مماثلة. ومن المعروف أن تغيير الوظيفة عادةً ما يكون بحثًا عن مكسب مادي أو تطور مهني، لكنني كنت أبحث عن شيء آخر… شيء لا يُقاس بالأرقام..!
وبعد خروجي من مكتبه بعد ذلك الاجتماع القصير، وقبل أن يُغلق الباب خلفي، كنت قد اتخذت قراري بالانضمام لهذه المؤسسة العملاقة.

كان الفاتح عروة مختلفًا. رجل تلتقيه لأول مرة، فتحس أنك تعرفه منذ سنوات. يمتلك قدرة فريدة على كسر الحواجز سريعاً .. وغالباً بعد دقائق معدودة من ( الونسة ) سوف تجد انه يعرف اسرتك او افراد منها.

خلال مسيرتي المهنية، تعاملت مع أكثر من خمسة رؤساء تنفيذيين أجانب، من مدارس إدارية متنوعة. بعضهم كان قوي الكاريزما، وآخرون تعاملوا بحذر دقيق في كل خطوة. لكن عروة كان شيئًا آخر. لم يكن يسعى لإظهار القوة أو السلطة، بل كان يمنحك الثقة منذ اللحظة الأولى.. يخاطب الجميع بلغة الأب والأخ، دون أن يضع حواجز وظيفية، كان يُقدّر الإنسان في كل موظف.. وهذا هو الإرث الذي يسود مؤسسة زين الآن.

كانت لمسته الإنسانية حاضرة في كل شيء: في كلماته، في قراراته، وفي طريقته في الاستماع.. كان يحب الأفكار الجديدة المبدعة ويدعمها، ويمنحك المساحة لتقود عملك بثقة.. ثم لا ينسى ان يقول احسنت حين تحسن .. او اخطأت حين تخطي..!

أذكر أن مسؤولاً حكوميًا اتصل به ذات مرة طالبًا تنفيذ مشروع معين.. أبلغنا بالأمر، ثم قال ببساطة: “القرار لكم… لا تلقوا لي بالاً، فأنتم المؤتمنون، وهذه أمانة”.. وتكرر هذا في مواقف كثيرة.. هكذا كان، لا يتعامل بسلطة رغم امتلاكها لها.. يمنحنا مساحتنا لنقرر ما نراه صوابًا، ثم يتحمل هو “وش القباحة” امام طالبي الخدمة إذا كان قرارنا الذي يراعي لمصلحة المؤسسة هو الرفض.

لم يكن الفاتح عروة صانع قرار فقط، بل صانع ثقة.. كان يؤمن أن تمكين الفريق لا يعني تركه بلا قيادة، بل يعني أن تمنحه الثقة والدعم ليقود نفسه..كانت هذه فلسفته في الحياة والعمل

لم يكن مجرد رئيس في العمل، بل كان قائدًا نادرًا يفهم أن الكلمة الطيبة والاحترام هما أساس الإدارة وروحها .. مثل الوالد الذي يعتني بك دون أن ينتظر منك شيئًا في المقابل. كان يمنح الثقة قبل أن تُطلب، ويُعطي الاحترام حتى لمن لا يعرفهم لذلك، ترك أثرًا واضحًا عند كل من عمل معه، ليس لأنه الأعلى سلطة، بل لأنه الأقرب قلبًا.

بالنسبة لزملائي الموظفين وايضا معارفه واصدقائه فإن رحيله المفجع لم يُنهِ حضوره فما زالت كلماته، وضحكاته، وطباعه، ونظرته للناس، حية لدى كل من سار معه الطريق.

لم يرحل سعادة الفريق الفاتح، بل تمدد في ذاكرة كل عرفه عن قرب او عمل معه، تمامًا كما يتمدد الضوء في المكان دون أن يُرى.. فسلامٌ عليه في الغياب، كما كان سلامًا في الحضور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى