وداعًا عثمان طيفور محمد شريف.. من لم يمت بالحرب مات بغيرها!.. بقلم: حاتم السر سكينجو المحامي
تُعدُّ الحرب الدائرة حاليًا في بلادنا من أسوأ وأخطر أنواع الكوارث التي لحقت بالسودان منذ استقلاله في ١٩٥٦م .ففي ظل راهن الحرب الحالية فقد الوطن العديد من الشخصيات الوطنيه البارزة ذات الارث التاريخي المجيد وذات التراكم المعرفي العريض من مختلف التخصصات لدرجة ان بعض الاحصائيات أشارت الي أن ما خلفته هذه الحرب الغاشمة من ضحايا مدنيين يفوق من حيث العدد ضحايا القوات النظامية في مختلف جبهات القتال .ومن لم يمت من المواطنين المدنيين بالحرب جراء التدوين والقصف والقناصة ،مات بسبب زيادة المعاناة الناتجة عن الحرب ، حيث تفشت بين المواطنين الأمراض الوبائية والعضوية والنفسية بشكل مخيف ومرعب، في ظل حالة التهجير القسرية التي فرضت علي القطاع الصحي بالبلاد والذي ادت الي شبه انعدام للعلاج فحصدت الأمراض أرواح عشرات الآلاف من الأشخاص، نتيجة لعدم سرعة إسعافهم، أو عدم الحصول على العلاج المناسب، وفي الوقت المناسب، للكثير من المواطنين.
ونحن نكابد ظروف الحياة، ونعيش فصول معاناة الحرب ، تتوالي علينا الفواجع ، حيث تلقيت وأنا في مصر اتصالا هاتفيا من العاصمة السعودية الرياض من سعادة السيد ناظر عموم قبائل الجعليين صلاح ابراهيم حاج محمد صباح الأحد الموافق ٦ أكتوبر ٢٠٢٤ نقل لي خبر الخبر الحزين والمؤلم برحيل عثمان طيفور محمد شريف الصديق الوفي والشقيق الأبي والزميل الألمعي والانسان المسالم المتفرد احد اعز الأصدقاء الذي جمعتني معه الدنيا الفانية والتقينا معاً تحت شعار سامٍ يسمى الصداقة.. لكنها صداقة من نوع فريد اكتسبت صفاتها من صفات عثمان طيفور صاحب الابتسامة الدائمة والنفس الطيبة والصدر الرحب والاخلاق الحميدة والقلب الابيض الكبير والهمة العالية والنهمة والفزعة السريعة …تعرفت عليه ونحن في المرحلة الثانوية في السبعينيات من القرن الماضي جمعتنا مدرسة الدامر الثانوية واحتوتنا داخليتها العامرة حيث كان الفقيد يسكن في داخلية المجذوب وانا في داخلية حران وكنت زائرًا منتظمًا لعنبر اولاد العالياب بداخلية المجذوب ومنهم عبدالعزيز الدقوني وسيف الدين احمد علي وعبدالخالق الامين وعوض السيد احمد بخيت وعثمان طيفور وآخرين كثر وفي ذلك الوقت كان والد عثمان (شيخ طيفور محمد شريف ) ملأ السمع والبصر وكان قمرًا ساطعًا في سماء السياسة السودانية ونجمًا يتلألأ في البرلمانات السودانية ورقمًا يصعب تجاوزه في الادارة الاهلية وكان يأتي ليقدم محاضرات ومناظرات علي مسرح مدرسة الدامر الثانوية ولكن ما كنا ندري ان هذا الزعيم هو والد هذا الطالب وذلك لان عثمان طيفور من أوجه فطنته وذكائه آثر ان يتعامل مع زملائه الطلاب تعاملا عاديا بسيطا وانا شخصيا ما عرفت هذه المعلومة الا ونحن علي اعتاب مغادرة الدامر بدايةً الثمانينات حيث حكاها لي الصديق العزيز الراحل الخليفة أحمد أبوقناية (عليه رحمة الله ) وللانصاف فقد أصبح ديدن الفقيد العزيز عثمان طيفور في الحياة هو الالتزام الصارم في كل منصب شغله، ولم يُعرف عنه أنه استعمل اسمه والده بوصفه من كبار رجالات الدولة الدستوريين ولا استغل وضعية والده لتمرير قرارات ، أو إيقاف أخري ،أو احتكار حق إبداء الرأي ، ولم يتجاوز حدود صلاحياته، وتعامل مع زملائه ورؤسائه ومرؤوسيه في كل المواقع التي عمل بها داخل وخارج السودان تعاملاً طبيعياً.وتشير المحطّات الكثيرة التي مرّ بها قطار العمر للصديق عثمان طيفور إلى تمسكه بمنهج حياتي صارم تبنّاه وتمسّك بعُراه، وآمن بأهميته من أجل بلوغ هدف وطني سامٍ طمح إليه وجعله بُوْصلته في ضبط رؤاه وتوجهاته، ويتمثل هذا الهدف في الاخلاص في خدمة الوطن والمواطن بتجرد تام وبدون اللهث وراء مقابل مهما كان نوعه فهو زاهد في المنصب ولا يبحث عن الجاه ولا المال وتلك هي مباديء مدرسة والده الشيخ طيفور محمد شريف وبما أن الشيء من معدنه لا يستغرب فطبيعي أن يكون الفقيد عثمان طيفور وهو احد ابناء اسرة نبيلة اتسم معظم رجالها وأبنائها بالتواضع والمثابرة وكان والده رمزا من رموز السودان واخوانه شخصيات مخضرمة ومعروفة وهو سليل الاسرة العريقة المثقفة التي لها وجودها وجذورها الأصيلة قبيلة وعقيدة وحزبًا والتي لها حضورها المتميز علي مستوي السودان في ميادين السياسة والادارة والقضاء والادب والتصوف فطبيعي أن تثمر مثل هذه العوائل قادة أعزاء مثل الفقيد العزيز عثمان طيفور.
الفقيد العزيز عاش بسيطا وهادئا وغادر ورحل بنفس الهدوء وهكذا هم الأخيار الطيبون المتميزون يرحلون في صمت وبلا ضجيج ،يتركون لنا ألم الفقد ولوعة الفراق ، لقد رحل عنا عثمان طيفور دون سابق إنذار أو أدنى إخطار، رحل من دنياناً ولم نودعه ولم نشعر بقرب رحيله وهكذا حال الدنيا وتقلباتها وحال الموت ومباغتته ولكن حسبنا من ذلك وعزاءنا في مصابنا بفقده كثرة ثناء الناس عليه بعد وفاته وتعداد محاسنه ومآثره وكثرة من شهدوا له بالتدين والاخلاص والصدق والامانة وبر الوالدين وصلة الرحم وخدمة الناس وذلك لعمري مصداق حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم حين مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال عليه الصلاة والسلام: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال وجبت، فقال عمر بن الخطاب: ما وجبت يا رسول الله؟ قال هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض» ونحن نشهد الله أن عثمان طيفور محمد شريف نال من الثناء أجمله ومن المدح أكمله في حياته وبعد مماته، نشهد بان عثمان طيفور كان قلعة من الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة والقلب الابيض، نقي السريرة سليم الصدر، دمث الأخلاق ، لم أطلبه في قضاء حاجة أو تلبية إجابة إلا وجدته يرد بكل سرور وبكل حب ووئام زاملته سنوات في الدراسة وقابلته في الاغتراب وفي الوطن فهو وفاقي لا يعرف الخصومة مع الآخرين بل يكاد يفقد اسمها في حياته، ونقل لي من أثق به أن الفقيد عثمان تنازل عن العديد من الحقوق الخاصة به هروبا من الخصام وإساءة الظن، عثمان طيفور له مجالسة محبوبة مألوفة ، وهو سهل لين في قوله وفعله وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلى النَّارِ؟ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ تَحْرُمُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ، هَيِّنٍ، ليِّنٍ، سَهْلٍ) فاللهم ارحمه واغفر له وتجاوز عنه واجمعنا به وبمن نحب في هذه الدنيا وبوالدينا في جنات النعيم.
يا صديقي عثمان لقد تدفقت الدموع بصمت وحرقة تحمل مشاعر الحزن والاسى من اصدقائك وزملائك ومحبيك ونعشك محمول علي الأكتاف الي المقابر وبيننا من حرمته الحرب من حضور التشييع وفينا من حبسه المرض وكثير حال دونهم وحضور التشييع تواجدهم في مدن الشتات والمنافي والنزوح خارج وداخل السودان لقد رحلت عن دنيانا تاركا لنا طيب عملك وحسن سيرتك، ونقاء سريرتك، واجمل ذكريات الصداقة والاخوة التي ربطتنا بك وبأسرتك الكريمة، نملك شريطًا من الذكريات يجسد نحو اربعين عاما من الذكريات القريبة والبعيدة،ذكريات الشباب والصبا وذكريات الشدة والرخاء وذكريات الحرب والسلام وآخرها مشاركتك المتميزة في استقبال مولانا السيد جعفر الصادق الميرغني عند زيارته الاخيرة لولاية نهر النيل وسوف أبقي محتفظا بصورتك وأنت تصافح السيد جعفر الميرغني ومعك وفدا من رجال وابطال دار جعل ارابيب الندي ومكوك الشهامة الذين بكوا رحيلك بدموع الدم.
رحلت عنا ياصديقي وكلمات الرثاء لا تكفي لمشاعر الحزن الذي خيم بداخلنا والألم الذي يعتصر صدورنا ولا نجد ما نقوله في هذا المشهد سوى أننا فقدناك حقاً وصدقا يا عثمان في وقت تزداد فيه حاجتنا الماسة لك.. وأنا أكتب هذه السطور الحزينة أري الدامر الحبيبة تنعيك والعالياب العالية تبكيك ودار جعل تتألم لرحيلك والجميع يبكونك مفجوعين برحيلك عنا ولكن ستظل ذكراك محفورة في القلوب والوجدان. ندعو الله العلي القدير أن يتغمدك بواسع رحمته ورضوانه وان يسكنك فسيح جناته الي جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا وصادق العزاء وخالص المواساة لأخيك شيخ الخط الفاتح طيفور محمد شريف ولأهلك وذويك وكل محبيك الصبر والسلوان «إنا لله وإنا اليه راجعون»