وداعا رفيق الدرب وشريك المسيرة المناضل محمد الحسن بابكر البدري المحامي.. بقلم : حاتم السر سكينجو المحامي

(1)
“البدري” والمقصود هنا الأستاذ الخليفة “محمد الحسن بابكر البدري” وفي معاجم اللغة العربية لها أكثر من دلالة، جميعُها تدور حول معانى فاضلة وطيبة؛ فيُقال إسم عربي مأخوذ من البدر،وهو القمر ليلة كماله “يظهر القمرُ بَدْرًا في منتصف كلّ شهر هجريّ” ، بدر تمام : قمر كامل الاستدارة، لَيْلَةُ البَدْر : ليلة أربع عَشْرَة من الشهر الهجري ،كما أن كلمة بدري تقال على الوقت المبكر من اليوم باكورة، ما جاء مبكّرًا. والبَدريّ من الزَّرع: ما بدَر به الزَّارع أوّل الموسم. والبَدريّ من الغَيْث: ما كان أوّل الشِّتاء. والبَدريّ من الماشية: ما بدَرت أمُّه في النّتاج فجاءت به أوَّل الزَّمان.وفي معجم المصطلحات الشرعية ورد معني “البدري” بانه الصحابي الذي شهد غزوة بدر مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ . والبَدْرِيُّوْن طبقة من أفضل طبقات الصحابة رضي الله عنهم . والشاهد قول الإمام أبي حاتم : “وروى هذا الحديث وكيع، عن سعيد بن سعيد التغلبي، عن سعيد بن عمير، عن أبيه -وكان بدرياً – عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – بنحوه “. وقول الإمام ابن الصلاح : “وأما أفضل أصنافهم [الصَّحَابَة ] صنفا : فقد قال أبو منصور البغدادي التميمي : أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية “.تقول العرب “لكلّ امريء من اسمه نصيب”؛ ولعلَّ اسم “البدري” فيه إشارة إلى ما ذكرناه من معانى.
(2 )
لقد قدر الله و قضى ،وحان الأجل الذي لا يقدم ولا يؤخر ، ونزل القدر المحتوم بالزعيم الجليل والخليفة الصالح الأستاذ القامة محمد الحسن بابكر البدري المحامي رحمه الله فترجل عن صهوة جواده ورحل في هذا اليوم الجمعة 21 من شهر شوال من عام 1446 من الهجرة النبوية الموافق 18 من شهر أبريل من عام 2025 ميلادية وهو مستشفياً في القاهرة.
وقد بلغني هذا النبأ الأليم والمفجع والمحزن وأنا خارج مصر ،و بمجرد علمي بالخطْب الجلل، والمصاب الفادح، لم أتردد لحظة واحدة ،وقررت السفر الي مصر ،وحضور التشييع والدفن ،ولا غرو في ذلك ،فأمثال هؤلاء العظماء ،تشد لهم الرحال ،وتلغي لهم البرامج ،وتؤجل من أجلهم الارتباطات ،مهما كانت أهميتها ،بيد أني عندما هاتفت أبناء الفقيد البدري وأحمد وإخوانهم، فوجئت بقرارهم نقل الجثمان الطاهر الي السودان، ودفنه في مقابر الأسرة ،في مسقط رأسه، وما كنت راضياً ولا مقتنعًا بقرار تسفير الجثمان من القاهرة الي شندي ،وذلك خوفاً من مخالفة مقولة اكرام الميت دفنه ، وعملاً باستحباب تعجيل الدفن للميت لانه فيه سترة ورحمة وإكرام كما يقولون .ولكن عندما شاهدت بالأمس صور الجثمان الطاهر، مسجي في ساحة المقابر، وهو ملفوف ببيرق الختمية، وحوله الخلفاء يرددون التوسلات والدعاء، وأفواج المشيعين تملأ الساحة، ومداخل القرية تزدحم بوفود المعزين،وعندما رأيت تدافع القوم وانتظامهم في صفوف طويلة لدرجة أن الناس وقفوا لصلاة الجنازة في الشمس ،وفي الظل، وفي كل مكان ،عندها ادركت اني كم كنت مخطئاً في تقديراتي ،وأن أولاد الخليفة محمد الحسن كانوا علي حق وصواب في قرارهم، وعندئذ تذكرت مقولة الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله : قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز .وخَطَرَ ببالي قول سيدنا معاوية لابنه – وقد رأى ابن عمر رضي الله عنهما يُسأل عن مسائل مِن العِلم ويلتف الناس حوله فقال قولته المشهورة -” هذا والله الشرف”.وتبادر إلى ذهني قول زوجة هارون الرشيد عندما نظرت من شرفة قصرها لتري استقبال الناس لهارون الرشيد عند قدومه للرقة وفوجئت بأن الناس يتدافعون ويتزاحمون بعيداً عنه قالت: ما هذا ؟ قالوا لها: هذا عالم من أهل خراسان، قدم الرقة، يقال له عبدالله بن المبارك.فقالت: “هذا والله الملك، لا ملك هارون ” الذي لا يجمع الناس إلا بشرطة وأعوان!!
وهكذا كان الشرف الذي لا يضاهيه شرف وهكذا كان التكريم الذي لا يشبهه تكريم هذه يا إخوتي ويا أحبتي شهادة الخلق علي العبد ،فقد كانت للفقيد العزيز أيادي بيضاء ومواقف مشرفة ،في كلِّ بيت، وفي كلِّ منطقة، وفي كلِّ مكان… خيرُه عمَّ مَن حوله، لم يحرمه يوما عن أحد ،مهما قرب أو بعد، مهما أنصف أو أجحف؟! ولذلك كانت جنازته التي لم تشهد البلد مثيلا لها، كانت أكبر دليل علي الشعبية الكبيرة، والمكانة العالية ،التي كان يحظي بها في نفوس الناس عامة، كما كانت جنازته شاهدا له ،من حيث قربه من الله تعالى، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
(3 )
غادرنا بالأمس وبلا وداع ود البدري ، والذي كان فينا وبيننا كالماء أينما وقع نفع… وبهذه السطور الحزينة، أنعي إلى الشعب السوداني ،ولجماهير الحزب الاتحادي الديمقراطي، ولخلفاء الختمية بخاصة ،والصوفية بعامة، ولاهالي شندي ،وولاية نهر النيل، ولأحرار العالم أجمع ،القائد الوطني محمد الحسن بابكر البدري ، رفيق الدرب ،وشريك المسيرة، على طريق الختم ومبادئ الأحرار الوطنيين .الذي رحل عن دنيانا الفانية ،بعد سنوات حافلة بالنضال والعطاء ،والبذل والتضحية، وبعد مرض ألمّ به في سنواته الأخيرة، فبرحيله ضاقت مرارة اليتم أسرته ، وتجرعت كاسات الحزن منطقته، فخسرت برحيله شندي، وفقدته الختمية، وفقدته حركة الحزب الاتحادي، ولكنه باقٍ في الذاكرة والقلوب،وبما أن البر لا يبلي فان نهج الفقيد قد أضحي مدرسة يسير الناس عليها، ويتناقلونها جيلاً بعد جيل .
( 4)
كان خلفاء الختمية وأعيان البسابير من مشايخنا وأساتذتنا الذين تتلمذنا عليهم من أمثال جدنا العمدة محمدانة التوم وشيخ الخط ابوشام التوم وعمنا الخليفة فوزي ودالعجيل،والخليفة عبدالرحيم فرنيب ، والخليفة عمر السنجك ، والنائب عثمان حميد، وشيخ العرب عبدالفتاح التوم،وسيدأحمد التوم والمك عثمان جادين… كانوا وآخرين غيرهم بحكم ترددهم المتكرر علي مكتب ود البدري في شندي، كانوا كثيري الحديث عن الاستاذ محمد الحسن المحامي، ودائمي العرض لمناقبه ووقتها نحن ما زلنا طلابًا بالثانويات … وبما أن سيرته قد سبقته فقد تعرفت عليه قبل أن أتشرف بلقائه وجهاً لوجه بعد انتفاضة أبريل 1985… ولقد نلت بعد ذلك شرف معرفته وصحبته وزمالته ورفقته والاغتراف من معينه… عشت معه أربعون عاماً بلا انقطاع من المزاملة في العمل والنضال، وسنوات المعارضة ضد الإنقاذ ، وبناء التنظيم الحزبي ، ودافعنا عن حزبنا وطريقتنا معا، وأدرنا معاركنا معا. تعاونّا، تزاملنا، كان كل منا عضداً وسندا لأخيه، كان كل منا عونا للآخر، يسترشد بفكره ويستهدي برأيه ويستقوي به، سنوات ما زالت ذكرياتها وستبقي محفورة في القلب والذاكرة.
( 5)
سطع نجم الفقيد ود البدري بدراً كاملاً في سماء مدينة شندي وعم ضياؤه كل ولاية نهر النيل وبعض أجزاء سودانية أخرى ،وشندي تلك المدينة الفريدة، التي ترقد علي ضفاف نهر النيل ،هي جوهرة مدن الشمال بلا منازع ،وكانت موئل الأحرار من قدم، وكانت قلعة النضال والصمود منذ الأزل ،وكانت محروسة بجيش جرار من القيادات الوطنية ،والقامات السياسية ،والحمد لله، رأينا وعايشنا شندي عندما كانت عقداً نضيداً منظماً ،وكان الفقيد فيه واسطة العقد ….كانت مدينة شندي مثل خلية النحل، في نشاط وطني مستمر، وحركة سياسية وثقافية لا تهدأ ،وما أعجب أهل شندي في تعاونهم المستمر، ونشاطهم الحثيث، للقيام بواجباتهم الوطنية، علي أكمل وجه ،بقيادة كوكبة من الشرفاء، نذكر من بينهم ،الذين رسخوا في الذاكرة ، وذلك علي سبيل المثال وليس الحصر، من رجالات الحركة الوطنية السودانية الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا . تسلم الخليفة الاستاذ محمد الحسن البدري يرحمه الله راية الحزب والطريقة الختمية في شندي بعد رحيل رفقاء دربه من قيادات شندي ورعيلها الأول أمثال عمنا عطا السيد سيد أحمد ،الأستاذ فايت محمد احمد فايت ، الناظر إبراهيم حاج محمد ناظر عموم الجعليين، الأستاذ عامر احمد جمال الدين وشقيقه محي الدين ،الخليفة احمد الخليفة صاحب الطلمبة،مولانا شيخ عبدالرحيم أمام مسجد شندي العتيق، الخليفة ابو سبعة، الخليفة هبار،الخليفة الجمري ،الخليفة جعفر الامين، الخليفة سنجر، الخليفة ابراهيم محمد خير ، الخليفة الأموي ، احمد ادريس الارباب .الخليفة عصام وغيرهم كثر لا يتسع المجال لذكرهم. ولم يتبق معه سوي شقيق روحه ورفيق دربه الزعيم محمد احمد ابو جوخ والخليفة شيخ عثمان الحفيان والحاج محمد ود البشير ، أطال الله اعمارهم ومتعهم بالصحة والعافية .
كانت مصيبة شندي برحيل ود البدري “محمد ” اشبه ما تكون بمصيبة ابن الرومي في وفاة ابنه الأوسط “محمد ” عندما رثاه قائلا:(توخى حمام الموت أوسط صبيتي فلله كيف اختار واسطة العقد) فقد كان ود البدري في شندي واسطة العقد يربط جنوب شندي بشماليها وشرقها بغربها ويربط شندي مع رئاسة الولاية ويربط الولاية مع المركز .وكان مكتبه في شندي بمثابة المقر الدائم لملتقي قيادات الختمية والحزب الاتحادي القادمون الي المدينة لقضاء حوائجهم وكان قبلة الزائرين الي مدينة شندي ،يدخلونه بلا استئذان، وتجد داخله الرموز والأعيان والقيادات أمثال العمدة محمد العوض بليلو، العمدة محمدانة التوم، شيخ حمد سلفاب،احمد محمد عمر الباندير، محجوب ابوشورة، أحمد الضو، عوض الله العبيد، الحاج ود عمر ،ابراهيم الازرق ،ال الحفيان ،الاستاذ سليمان كركبة، الخليفة حاج صديق محمود وأخوه الخليفة عمر محمود،الخليفة ابراهيم الكدقري.رحمهم الله جميعا وجعل الله قبورهم مهبطا للملائكة ومزارا للرحمة .
(6 )
إنَّ فقيدنا العزيز الاستاذ الخليفة ود البدري ، كان صورة ناصعةً من أولئك الكرام الذين عاصرهم، وعمل معهم ؛ وطبيعي أن يتخلق باخلاقهم ،ويتطبع بطباعهم ،ويقتفي آثارهم ،ويسير علي دربهم، فينفع الخلق ،ويذود عن الحق ،ونشهد ؛أنه كان علي الصعيد الحزبي وفي جانب العمل الوطني، كان قائدا كبيرا،وقامة وطنية كبيرة ،صاحب عقلية متميزة فذة، صاحب قرار ،يملك رؤية لا يحيد عنها. يملك وعيا، بوصلته واضحة، مبدئيا لا يساوم، وحدويا وديمقراطيا بطبعه وبفكره، وتعامل مع الجميع، ومدّ يده للجميع، وتعامل وناضل مع أشقائه في المسيرة الوطنية السودانية.وعلى الصعيد الديني كان ختمياً مختوماً ختامه مسك،وصوفيا صافي الفكر،متديناً بلا تنطع ولا تكلف ، سمحا إذا باع واذا اشتري واذا اقتضي ،كان عابدا زاهدا ،تقيا نقيا ،كان عنواناً للتواضع فرفعه الله مكانة علية، كان يرحمه الله يدعُّ الناس إلى الخير دعًّا .
و علي مستوي المهنة فقد كانت مهنة القانون أليق مهنة بشخصيّة الفقيد العزيز محمد الحسن بابكر ؛ فكان مثالا فيها ونموذجا يحتذي به؛ ولقد منح وقته وعمره للدفاع عن الحق والعدل ودولة القانون ، حتى صار عميداً لأفرادها في شندي بلا منازع؛ وإني كلما التقيتُ أحداً من القضاة أو المحامين من شندي، أو ممن عمل في شندي؛ إلاَّ وجمَّل ذكرُ اسم البدري وفضله الحديث ؛ وفي الحديث “ألسنة الخلق أقلام الحق”. لأن الله سبحانه وتعالى خلق شهوده في الأرض وهم أقلام الحق فيها إذا أثنوا على عبد من عباد الله خيراً فهو كذلك وإن أثنوا عليه شراً فهو كذلك فالأمة لا تجتمع على باطل ولا على ضلال أو كذب.قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: “تلك عاجل بشرى المؤمن”، وذلك مصداقاً لقول الله سبحانه وتعالى : “لهم البشرى في الحياة الدنيا”.أما على الصعيد الإنساني والأخلاقي فقد كان ود البدري لطيف المعشر، قريبا للقلب، دافئ المشاعر، تأنس له، تحب أن تجالسه وأن تسمع منه وتُسمعه.كان نموذجا للاستقامة الدينية والصلابة الوطنية والاستنارة السياسية والمعرفة الإنسانية .
لقد كان الفقيد العزيز متوازنًا في جمعه بين هذه الانتماءات المتعددة، والتي هي دوائر، لها مركز واحد؛ أن تكون سودانيًا ،وأن تكون محاميًا، وأن تكون ختمياً،وأن تكون اتحاديًا ،وأن تكون إنسانياً، وأن تُسخر كل ذلك لخدمة المواطن والوطن، وأن تكون قضية الوطن حاضرة في قلبك وعقلك تنفيذًا وتطبيقًا لرؤية صاحب السيادة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني الذي كان الفقيد الي جانب قربه واخلاصه له كان وكيله الخاص في شندي
( 7)
ختاماً بقي عليَّ أن أعترف بعجزي عن الكتابة عن أستاذي وصديقي وشقيقي وقريبي وأقِرُ بأنَّ الكتابة عن شخص من طينة “ود البدري” لهي أمرٌ أشبه بالمستحيلِ؛ إذ الكلمات تعجِز عن نسج البيان، والعباراتُ تقصُر عن رصّ البُنيان؛ ولذا رأيت أن أترك مهمة الحديث عن بعضَ مناقِبه، ومُنجزاته، ومواقفه ،ثم شهادات الناسِ عنه؛ ليقوم بها غيري لاني لو أخذت في النقل لتهت في وسع هذا الميدان .رحم الله فقيدنا العزيز الاستاذ الخليفة محمد الحسن بابكر البدري المحامي ،وأقول له يا صديقي انك كنت من طراز فريد ، ونوعية نادرة من البشر، أتعبتَ من معك، وأتعبت من بَعدك؛ وأعان الله أبنائك، ليكونوا صورةً منك، وليسيروا على سيرتك، و يتبعوا طريقتك، ويـُحيوا آثارك ومناقبك .ندعو المولي العلي القدير متضرّعين أن يسكنك في الفردوس الأعلى، إلى جوار سيَّد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع “النبيئين، والصدِّيقين، والشهداء، والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا”.
ولله الحمدُ أولاً وآخراً… وهو القائل في حق عباده الصالحين: “يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي”.صدق الله العظيم.