مقالات الرأي والأعمدة

محمد فتح الرحمن بشير يكتب الفن التشكيلي وإعادة الإعمار: حين تُداوي الألوان جراح الخرطوم

الفن التشكيلي وإعادة الإعمار:
حين تُداوي الألوان جراح الخرطوم
محمد فتح الرحمن بشير

في قلب المآسي التي طالت مدينة الخرطوم، لا تنبض الحياة فقط عبر آلات البناء أو مخططات المهندسين، بل أيضًا من خلال ريشة فنان، وفرشاة تلامس الجدران المنهكة، لتُعيد لها معنى الوجود. الفن التشكيلي، بأبعاده الجمالية والنفسية والاجتماعية، ليس ترفًا في زمن الدمار، بل ضرورة تعبيرية وروحية تساهم في تضميد الجراح الجماعية وبناء جسور جديدة للتماسك المجتمعي.

الفن التشكيلي: لغة البقاء والمقاومة

علم النفس الاجتماعي يبين أن المجتمعات الخارجة من الحروب والكوارث تمر بحالات من الإنكار، الحزن، الغضب، ثم التقبل وإعادة البناء. الفن التشكيلي يُعد وسيلة فعالة لتسريع هذا الانتقال النفسي. فعندما يرسم الفنانون جدارية على أنقاض جدار مهدم، هم لا يجمّلون الواقع فحسب، بل يوثقون الألم، ويمنحون الأمل شكلًا يمكن رؤيته ولمسه. الخرطوم اليوم تحتاج هذا النوع من “الدواء البصري”، الذي يعالج عبر الألوان ما لا تستطيع الكلمات التعبير عنه.

من الناحية العلمية، توصلت دراسات في علم الأعصاب إلى أن للألوان تأثيرًا مباشرًا على المزاج البشري. استخدام درجات الأزرق والاخضر في المساحات المدمرة يعيد الإحساس بالأمان والطمأنينة، بينما تفتح الألوان الدافئة كالأصفر والأحمر أبوابًا للطاقة والتفاؤل. الفنانون التشكيليون في السودان، بحسهم المحلي العميق، قادرون على خلق رموز لونية ترتبط بالهوية السودانية وتعزز الانتماء، وهو أمر بالغ الأهمية في مرحلة ما بعد الصدمة.

إعادة الإعمار ليست فقط ترميم الجدران، بل إعادة ترميم الروح المدنية للمدينة. هنا يأتي دور الفن التشكيلي كجزء من العمارة الحضرية. في كثير من دول ما بعد النزاعات، تم إدماج الفن في تخطيط المدن كمكوّن أساسي، يُخلق من خلاله فضاءات عامة نابضة بالحياة، تُستخدم للراحة والتأمل والنقاش، بعيدًا عن صخب السياسة وضجيج الألم.

في الخرطوم، يمكن للفن أن يعيد رسم هوية المدينة، لا عبر التقليد، بل من خلال التجريب الجريء والعودة إلى الجذور والاصل، والزخارف الشعبية، والحروفية العربية وغيرهم من تراث نوبي ، لتصنع لغة تشكيلية معاصرة تعكس روح المدينة ونهوضها.

وسط الركام، قد لا يحمل الفنانون مجارف أو آلات ثقيلة، لكنهم يحملون أدوات لا تقل أهمية: الفرشاة، الفكرة، الإحساس. مبادرات فردية أو جماعية بدأت فعلاً تظهر من فنانين سودانيين داخل وخارج الوطن، ترسم، تُنظم معارض، وتجمع التبرعات، وتعيد تشكيل المشهد الثقافي تدريجيًا. هم يعرفون أن الخرطوم لا تُبنى فقط بالحجر، بل بالحلم أيضًا.

الفن التشكيلي ليس طرفًا في معركة البناء، بل قلبها النابض بالإحساس والمعنى. وفي طريق إعادة إعمار الخرطوم، يحتاج المعماري إلى المهندس، كما يحتاج المهندس إلى الفنان، ليمنح المكان بعدًا روحيًا يعيد للمدينة ذاكرتها، ويُطلِق لأهلها نافذة نحو أفق جديد.

عبر الفن، يمكن للخرطوم أن تولد من جديد، لا كمدينة خارجة من حرب، بل كرمز إنساني لإصرار الجمال على البقاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى