سياسيمقالات الرأي والأعمدة

طه هارون حامد يكتب وداع عام ماضٍ والتأمل في الواقع السوداني … بين الأمل واليأس

طه هارون حامد يكتب
وداع عام ماضٍ والتأمل في الواقع السوداني:
بين الأمل واليأس

في لحظة وداعنا لعام ماضٍ، نتأمل في ماضٍ مليء بالتحديات والآلام التي عصفت بكل جوانب حياتنا، سواء في السودان أو في عالمنا العربي والإسلامي. عام مضى، ونحن بين آلام الفقدان، الحروب، التهجير، الجوع، المرض العطش، وتدهور البيئة. قلوبنا مثقلة بالهموم، وعقولنا مشوشة بمشاهد الصراع والتشرد، وكل شيء حولنا يذكرنا بمآسٍ عشناها، سواء كنا شهودًا عليها أو ضحايا لها. لكن مع كل ذلك، يظل الأمل الذي يبحث عن مكان بين كل هذه الظلمات، فهل من أمل في التغيير؟ وهل يمكن أن نعيد بناء ما تهدم؟

معاناة الشعب السوداني
لقد مرّ الشعب السوداني بسنوات عجاف تخللتها العديد من المآسي، ففي العديد من المناطق تعيش الأسر في معاناة مستمرة من الفقر والتهجير القسري، مع أزمة سياسية طاحنة زادت من تعقيد الأوضاع. وقد أصبح الصراع على السلطة والنفوذ جزءًا لا يتجزأ من الواقع اليومي، مما يزيد من معاناة الناس ويدفعهم للبحث عن حلول للهروب من هذا الجحيم الذي يعيشونه. شهدنا في السنوات الأخيرة نزوحًا هائلًا، لجوءًا جماعيًا، وموجات من التشريد جعلت من المدن والقرى السودانية أماكن يسكنها اليأس والخراب وخفافيش الظلام ؛

الأطفال والشيوخ الأكثر تأثرا، حيث أُجبروا على العيش في ظروف إنسانية قاسية، لا طعام فيها ولا دواء، والبرد القارص ينهش أجسادهم الضعيفة، بينما الأمراض تفتك بهم من كل حدب وصوب.

إن ما يعانيه الشعب السوداني من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية يُعتبر مرآة عاكسة لما يعيشه الكثير من شعوب العالم العربي، بل والعالم أجمع. لقد أصبح خطاب الكراهية والتطرف والفرقة أسلوبًا مألوفًا في الكثير من المجتمعات، يضيق فيه الأفق وتتسع فيه هوة الخلافات. فكلما ازداد الألم، زاد التفكك المجتمعي، وزاد تباعد القلوب.

من الثورة المهدية إلى الواقع المعاش
كان السودان في الماضي موحدًا تحت راية الثورة المهدية، التي نهضت ضد الاستعمار، ورفعت شعار الحرية والاستقلال. كان الجميع يقف تحت لواء واحد، لا فرق بين شرق وغرب، ولا بين شمال وجنوب. ثم جاء الاستقلال، وتغنى السودانيون بكلمات: “كل أرجاءه لنا وطن”، ولكن بعد أن اندلعت الحرب الأهلية، وبعد الفتن الداخلية والخارجية، أصبحت الدماء تلوث هذه الأرجاء التي كانت يومًا ما حلمًا مشتركًا.

من الثورات السابقة، مثل الثورة المهدية، إلى اللؤاء الأبيض، كان هناك توحد واندفاع من أجل استقلال الوطن. ولكن، مع مرور الوقت، نشأ تآكل في هذا الوعي الوطني، حيث سيطرت الانقسامات السياسية والعرقية على الساحة، وأصبحت القوة العسكرية هي البديل عن الحوار السياسي. مع الأسف، فقد الشعب السوداني الشعور بوحدة الهدف الذي كان يجمعهم في السابق.

الكراهية وتأثيرها على المجتمع
لقد أصبحنا في عصر انتشرت فيه مشاعر الكراهية بين الأفراد والجماعات، وتفشى خطاب العنصرية والتطرف الديني، مما أثر على النسيج الاجتماعي بشكل كبير. الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم يوضح أن الكراهية ليست من صفاته ولا من صفات المؤمنين، بل هي سبب في التفكك والدمار:
“وَقُلْ جَاءَ الْحَقُ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا” (الإسراء: 81).

إن الكراهية التي تزرعها النفوس المريضة تساهم في انتشار الفرقة بين أفراد المجتمع وتزيد من عزلتهم، وفي النهاية تؤدي إلى تدمير ما كان يوحدهم. والحديث الشريف أيضًا يوضح لنا أهمية تجنب الكراهية والتحلي بالتسامح:
“لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.” (رواه البخاري ومسلم)

إذا أردنا التغيير، يجب أن نبدأ بأنفسنا أولًا. أن نتخلص من هذه المشاعر السلبية وأن نعمل على بناء جسور المحبة بيننا، معترفين بأن الاختلافات الطبيعية بيننا لا يجب أن تؤدي إلى الفتنة والعداء
التغيير يبدأ من داخل الإنسان

إن التغيير الذي نأمل فيه لن يحدث إلا إذا بدأنا بتغيير أنفسنا. كما جاء في قول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد: 11). وهذا يشير إلى أن التغيير في المجتمع يبدأ من تغيير الأفكار والمواقف في داخل الأفراد. فكلما كانت القلوب صافية، والعقول منفتحة، والنية صادقة، يمكننا أن نخلق مجتمعًا قادرًا على النهوض من بين الركام.

إن التغيير لا يعني فقط تحسين الوضع السياسي والاقتصادي، بل يشمل أيضًا إصلاح العلاقات بين الناس وتأسيس مجتمع يتسم بالتسامح والمحبة. فإذا بدأ كل فرد في تغيير نفسه، وتخلص من الحقد والكراهية، فإن هذا سيؤدي إلى تحسن الوضع بشكل جماعي، على المدى البعيد.

في النهاية: الأمل في المستقبل
رغم كل المعاناة التي مررنا بها، إلا أن أفقد الأمل لا يزال مفتوحًا أمامنا. يحتاج السودان اليوم إلى العودة إلى قيمه الإنسانية الأصيلة، التي تجمع بين الناس في إطار من الاحترام المتبادل والمساواة. نحن بحاجة إلى تبني خطاب السلام والمحبة، والتخلص من الكراهية والانقسامات التي ألحقت الضرر بنا جميعًا. التغيير، كما أكد القرآن الكريم، يبدأ من داخل كل فرد، وتغيير أنفسنا هو السبيل الوحيد لنهوض أمتنا. فلنستعد لعام جديد يحمل بين طياته أملًا في التغيير، ويعيد إلى السودان وحدته وتماسكه، بعيدًا عن الخطابات السلبية والعنف.

“إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
فلنعمل جميعًا على تغيير ما في نفوسنا، ولنتكاتف من أجل وطننا الذي يجمعنا جميعًا، رغم كل المحن والآلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى