من دفتر مقاربات ومقارنات
دكتور مهندس نجاة الامين عبدالرحمن
خبير الاستراتيجية والقانونية
مقال بعنوان :
مدنيا ااا..!
————————
اتفق المفكرون والكتاب والفلاسفة الاوئل على تعريف الدولة بانها عبارة عن مساحة من الارض تمتلك سكان دائمون اقليم محدد، وحكومة قادرة على المحافظة والسيطرة الفعالة على اراضيها واجراء العلاقات الدبلوماسية..”اتفاقية مونتيفيديو “Montevideo” للعام 1933م اما تعريفها التقليدى”الكلاسيكى “فهى عبارة عن ارض وشعب ومؤسسات، وقديما كانت تعرف بانها دار،خلافة،سلطنة،مملكة، بلاد وعند الغرب هى (Polis) ,(Respublica) عند اليونان، (Citvas).. وبانقضاء هذه العصور الوسطى، ظهر التعريف الحديث للدولة التى تقوم على اسس سياسية تشتمل على التعددية السياسية والحزبية لتداول السلطة الشرعية الدستورية واساس الحكم فى الدولة ،اما المدنية كمفهوم ومصطلح فكان موجوداوحاضرا منذ العصور الماضية ولكن زاع صيتها واتقتدت جذوتها بعد الحرب العالمية الثانية ..
وفى استراحة سياحة معرفية بين مجلدات ومعاجم اللغة والنحو نسترجع بهدوء صفحات وصحيفات المدينة فهذه معرفة بال، والتاء للتانيث ، فهى مدينة وهى مفرد مدن وعند النسب فهى مدنية ، والمدنية كمفهوم لها صورتين هما:
– الصورة الاولى: وهذه تفيد الحضارة مقابل او”عكس” البداوة ..وتعرف المدنية بالعمران والترقية المشاهدة فى المبانى العالية الشامخات وناطحات السحاب والشوارع الممتدة والممهدة ووسائل النقل والتنقل من سيارات فارهة وسفن وقطارات وطائرات ،ووسائل الاتصال السمعية والصوتية ، والاقمار الصناعية ،والرفاهية فى الخدمات والمرافق المختلفة.. ومظاهر السلوك الحضرى المتطور للانسان ، وتعدد دور الثقافة الملاهى ،المقاهى،النوادى، والمسارح والسينما .
– الصورة الثانية: فهذه تعنى بالجانب الفكرى للمدنية بشقيها الايجابى والسلبى الذى يعرفها فلاسفة ومفكرى القرون الوسطى امثال: “الفرنسى جون هوليوك،و موريس باربير، وفرانسوا فولتير وشارل مونتسكيو، وجان بول سارتر ‘الوجودية’، وجان جاك رسو ‘العقد الاجتماعى-انجيل الثورة’ واليهودى الهولندى باروخ سينوزا ، والالمانى فريدريك نيتشة ‘السوبرمان’ ” فهؤلاء يعرفون المدنية بانها حق الفرد او الجماعات فى العيش داخل الدولة التى تحافظ عليهم دون اعتبار لانتماءتهم القومية او الدينية او الفكرية وكما يتيح لهم حق المواطنة بعدالة ومساواة دون تميز لدين او مهنة او اقليم او مال او جاه او نسبا او قبيلة.. وهذه المفهوم للمدنية يمثل الشق الايجابى للمدنية ، اما الشق الاخر له نفس المفهوم والمعنى ولكن يعرف بال( Secularism ) وهذه هى الشق السلبى للمدنية، حيث تمثل اهم واخطر مبادئها المثيرة للجدل لانها تنادى بال Separation of church and state وهذا النوع من المدنية شديد العداوة واعنف مناهض للدولة الدينية اوالدولة الثيوقراطية وهذه الاخيرة يكون الحكم فيها لشخص او اكثر او مؤسسة معينة”مثلا الكنيسة فى العصور الوسطى اوربا” ..وباسم الله او تفويض من الله او يشرع الله بفرض على رعاياه حق الطاعة والتقديس بامر الله وهى تكونت نتيجة لثلاثة نظريات وهى باختصار :
– نظرية الطبقة الالهية للحكم “ان الله موجود فى الارض ويجب على الافراد تقديسه دون اعتراض ” ..دولة المماليك الفراعنة، الامبراطوريات .
– نظرية الحق الالهى المباشر “الحاكم يختار مباشرة من الله،من غير تعبيد للحاكم،استخدمتها الكنيسة وبعض ملوك اوربا لتدعيم سلطاتهم على الشعب”الحرب العالمية الثانية.
– نظرية الحق الالهى غير المباشر “مجموعة من الافراد مسيرة من الله تختار الحاكم هذا النوع استخدمته الكنيسة” ،وفى سردية بسيطة وللتاريخ ومن باب التذكير نقف عند وثيقة المدينة (وثيقة الرسول صلى الله عليه وسلم فى المدينة المنورة بعد الهجرة) فهى صحيفة المدينة و اول دستور ينظم العلاقة بين المسلمين وغيرهم فى مايعرف بالعقد الاجتماعى وهو دستور يعترف بحق المواطنة وتضمنت هذه الوثيقة على اربعة محاور هى:
– -الامن الجماعى.
– التعايش السلمى
– ضمان حرية الاعتقاد والتعبد
– المساواة بين المواطنين ومبدأ المسئولية الفردية
وفى مقاربة بسيطة مابين مفهوم المدنية بشقها الايجابى “الوجه الحسن “ووثيقة المدينة نجد كلاهما يحققان شروط ومبادئ الدولة المدنية فى تحقيق المواطنة دون تميز مهنيا،دينيا،اقليميا،قبليا،نسبا، حسبا،جاها،مالا،سلطة والتساوى فى الحقوق والواجبات ،والعيش دون انتهاك لحقوق من الافراد والجماعات وتحقيق العدل .. ونشير ونشهد بوجود وجه مشابه عند المقاربة لما ينادى به ابناؤنا الثوار والحالمون بالتغيير المنشود من خلال هتافهم “حرية ،سلام ،عدالة” و ماجاءت به نصوص و محاور صحيفة وثيقة المدينة جملة وتفصيلا وكما نجد ان مبدأ العدل فى كلاهما حاضرا لتحقيق اقامة دولة مدنية يعيش فيها الافراد والجماعات بحرية وسلام وعدل “دولة القانون” و “المواطنة” تحت ظل دستور يحمى الحقوق والواجبات دون تميز وتداول سلمى للسلطة ، وهنا لابد من الاشارة الى صحيفة المدينة التى كانت اول دستور صدر(وثيقة المدينة) حيث يقتدى بها الجميع لامتداح رسولنا الكريم حكم دولة الحبشة التى كانت دولة عدل وللحقيقة والتاريخ رغم امتداح رسولنا الكريم حكم دولة الحبشة فانه لم يحدد شكل لنظام الحكم سواء كان ملكى،جمهورى،عسكرى،امبراطورى..الخ..
ولا بد هنا من الاشارة الى مفهوم اخر مغاير لمفهوم المدنية المعروف حيث شاع هذا المفهوم واتسعت رقعة مؤيده الذين يرفعون شعار لا للعسكرية فى ظل المدنية كنظام للدولة وينادون و يعرفون المدنية بانها عكس اوضد العسكرية وفى تقديرى انهم وبهذا المفهوم يخلطون الحابل بالنابل والمدنية من وجهة نظرهم هى “عبارة عن افراد مدنيون (مدنى) لايحملون السلاح ولايرتدون البزة العسكرية ولهم الحق فى ممارسة السلطة دون وجود للعسكرية بينهم ، الذين يحملون السلاح فقط.. ويحكمون بقوته ويحتكرون السلطة المدنية والعسكرية معا ، ويقومون بتزيف الديمقراطية، وديدنهم الدكتاتورية..”،وفى اعتقادى ان المدنية بهذا المفهوم المذكور سابقا يسود لدى الدول التى قواها السياسية واليات ممارسة الديمقراطية باوطانها تعانى قصر النظر فى فهم الانظمة الحاكمة المناسبة لاوطانها وعلاقتها بالبئية الجيوسياسية التى تحكم اوطانهم واثار هذه العلاقة الموجبة اوالسالبة على عظم الدولة وهيكلها الفقرى “التنظيم الادارى والمؤسسات المدنية والعسكرية” وهذا القصور فى الفهم ينتشر ويعم كثيرا من الدول الفقيرة و النامية والتى تعانى فوبيا الانقلابات العسكرية ، وعليه لابد من التوضيح بقصد الاستنارة وتصحيح الفهم المغلوط فمن وجهة نظرى ان هذا المفهوم للمدنية بانها ضد العسكرية غيرموفق لعدم الانصاف والاخلال باوجه المقاربة والمقارنة لديهما حيث لا يوجد وجه شبه بين المدنية والعسكرية فالاولى نظام للحكم اما العسكرية فهى وظيفة او مؤسسة بهيكل الدولة وهى العمود الفقرى للدولة لها مهام وادوار محددة ومقدرة لاداء خدمة محددة فى ظل النظام المدنى او غيره من الانظمة المختلفة..واما عند المقارنة نجد الاختلافات بينهما واردة ، فالمدنية كنظام للحكم فى الدولة سواء كانت احادية او مركبة او فى اشكالها المختلفة كحكومة رئاسية او شبه رئاسية او برلمانى او مزيج بينهما فهى غير ثابتة ومتغيرة سلميا بالتوافق الوطنى او الانتخابى او بالانقلابات او الانتفاضات او الثورات ..اما الجيوش فهى باقية بقاء الروح بالجسد ولا يوجد ولم نسمع فى عصرنا الحديث دولة فى العالم لا جيش وطنى لها .. الا فى العصور القديمة وما ماسطرته اقلام خبراء وعلماء التاريخ، وللحقيقة كانت الجيوش يتم حشدها من المواطنين تطوعا وعند نشوب الحروب والنزاعات فقط حيث لم تعرف الشعوب انذاك الدولة بمفهومها الحديث فالدولة كانت هى دار،خلافة،سلطنة، مملكة،بلاد، امارة، ومثال لهذه الجيوش فى العصر العثمانى عهد السلطان مراد الجيش الانكشارى وفى العصر العلوى -المغرب عهد السلطان مولى الجيش البخارى..فكل جيوش العالم الحديث لها مهام تقوم بها فمن هذه المهام الدفاعية،والامنية ، والانمائية وتهدف هذه المهمات الدفاع عن الوطن والمحافظة على السيادة،وعلى سلطة الدولة ،وحماية الدستور، وحفظ الامن، والاستقرار،والمساهمة فى تامين الاستقرار الاجتماعى والتنمية ،كما لكل من جيوش العالم عقيدته العسكرية وتعرف العقيدة العسكرية بانها” المذهب العسكرى الذى تتخذه الدولة لبناء جيشها وتاسيس كل مجالاتها العسكرية وهى مجموعة المبادئ والقيم التى تحكم اداء الجيش وتروم صيانة المصالح العامة للدولة،ويستخدم مصطلح العقيدة العسكرية، للدلالة على المستوى الاستراتيجى وهو الاطار العام لجميع مستويات العقيدة العسكرية ” ، والجيش السودانى مثله ككل جيوش العالم له عقيدته العسكرية التى يستمدها من العقيدة الاستراتيجية القومية الشاملة للدولة فقواتنا المسلحة لها عقيدتها القتالية تقوم على اساس الدفاع عن الوطن والحفاظ على سيادته ووحدته الوطنية ونظام وانضباط عسكرى صارم وتقوم بمهام مدنية تتمثل فى تقديم المساعدات اثناء الكوارث الطبيعية وحفظ الامن فى حالة الاوضاع الامنية ،فالذين ينادون بالمدنية بالمفهوم المقابل للعسكرية ويهتفون العسكر للثكنات.. والوطن فى حالة حراك ثورى او فى وضع غيرمستقر فهنا يظهراخلال واختلال هتافهم ، فى مثل هذه الاحوال غير المستقرة ، لذلك كان لابد من ان يكون دور القوات المسلحة حاضرا ووجوب وجودها لحفظ البلاد والسيادة والدستور ..وتجدر الاشارة الى هتاف جاء من ساحة اعتصام القيادة العامة وبصوت عالى هتف من خلفه بعض المؤيدين وبصوت عالى مدنيا ااا…فالامر لم يكن غريبا فالهتافات كثيرة وحق مكفول للجميع دون حجر لاحد فهو مطلب للتغيير. وهى وقود الحراك الثورى لا قضاضة ،ولكن هذا الهتاف دون غيره مخالف ومكابر، وبلغة وعلى صيغة مصطلح لغة العامية الدارجة “الراندوق ” والسؤال الذى يطرح نفسه لماذا كان هذا الهتاف بهذه اللغة ام كان قصد المد والتطويل التشديد على مطلب تحقيق المدنية “مدنياااا..” ؟ فقبل الاجابة على هذا السؤال لابد من الوقوف عند مصطلح الراندوق حقيقة هو مصطلح لغوى شعبى مصطنع شائع بين الطبقات الهشة فى المجتمع كالذين يعيشون فى الشوارع والطرقات والمصطلح عبارة عن كلمات تم تحريفها بزيادة او ازالة او تبديل حروفها لتصير كلمات او عبارات يتبادلونها اويبدلونها حسب الحال او المقصود سواء للتواصل او الابهام او السرية ومنها على سبيل المثال:(يافردة بمعنى ياصاحبى،شفشفة بمعنى سرقة..الخ..).. وهذه اللغة كانت عند ظهورها محصورة بين افراد وجماعات غير متعلمة وغير مثقفة ..وكما اسلفنا فهى تسود بين طبقات المجتمع الهشة.. وللاجابة على السؤال المطروح.. فى تقديرى ان استخدام هذا المصطلح ومن داخل اعتصام القيادة ثكنة الجيش..ومن المعلوم بالضرورة ان الجيش هو الذى “انحاز ” اكرر” انحاز “لجانب الشعب والثوار ..وللحقيقة من هتف بهذا الهتاف هو احد “المثقفين” مما دعى حضور “سوء النية” من القصد والشاهد وهو استمالة الطبقات الضعيفة بالمجتمع او مايسمونهم “بالشماسة -او البولتارية -او المهمشين ” لخدمة مأرب ماخلف الهاتف والهتيفة “ضد العسكر” وهنا تظهر مقاصد استخدام مصطلح الراندوق من باب الابهام والسرية.. اما فيما يخص المد والتطويل للحرف الاخير للمدنية “مدنيااااا.. هو التشديد للتنفيذ المطلب.. وهذا من باب “بياض النية” فقط.. وعلى اى حال او مقصود سواء كان هذا او ذاك فقواتنا المسلحة فوق كل المقاصد ..جيش واحد..شعب واحد.. نحن اسد الغاب ..لا نخاف الموت.. او نخشى الخطوب ..نهزم الشر ..ونجلى الغاصبين ..كنسور الجو.. واسد العرين ..فليعش سودننا علما بين الامم ..يابنى السودان هذا جيشكم..اكرر هذا جيشكم.. يحمل العبء ويحمى ارضكم..يابلاااااادى.
انتهى،،
نوفمبر/ 2024م