مقالات الرأي والأعمدة

وجه الحقيقة..إبراهيم شقلاوي..انتصارات الجيش تربك الحسابات السياسية للأحزاب

في هذا المقال، نحاول رصد تطورات مواقف الأحزاب السياسية تجاه ما يجري في السودان، بالنظر إلى معطَيَيْن مهمين: الأول : انتهاكات مليشيا الدعم السريع المتجددة في ولاية الجزيرة السودانية، والثاني انتصارات الجيش السوداني في عدد من محاور القتال.

أصدرت تنسيقية القوى المدنية (تقدُّم) بياناً استثنائياً أدانت بموجبه مليشيا الدعم السريع إدانة واضحة، هي الأولى من نوعها بهذه الحدة منذ اندلاع الحرب في السودان في منتصف أبريل من العام الماضي، والتي تصاعدت فيها الانتهاكات ضد المدنيين في عدد من الولايات السودانية، وخاصة في قرى ولاية الجزيرة.

أشار بيان التنسيقية إلى تطورات الأحداث في شرق الجزيرة، وحمّل المليشيا مسؤولية الانتهاكات الواسعة في مدن رفاعة وتمبول والهلالية وعديد من القرى في شرق الجزيرة تعرضت لعمليات ترويع ضخمة، بلغ بعضها حدَّ نزع الحق في الحياة قتلاً بالرصاص لمدنيين عزل، علاوةً على عمليات نهب وسلب واسعة شملت الأسواق الرئيسية في مناطق عديدة في شرق وشمال الجزيرة، مما فاقم الأوضاع الإنسانية وقاد إلى نزوح جماعي من المنطقة.

دعت “تقدُّم” المليشيا إلى ضرورة الالتزام باتفاق جدة للترتيبات الأمنية والإنسانية الموقع في 11 مايو 2023، والالتزام بالقوانين الدولية لحماية المدنيين. اللافت في هذا البيان أن “تقدُّم” تحدثت عن ضرورة التزام المليشيا باتفاق جدة ولم تذكر وثيقة الشراكة التي وقعتها مع قائد المليشيا محمد حمدان دقلو في أديس أبابا في يناير الماضي، تلك الوثيقة التي مضت نحوها تقدُّم بعجلٍ ظناً أنها ستضمن بها شراكة سياسية مستقرة بعد الحرب المتهمة بإشعالها، حيث قدّرت قراءتها المتعجلة – أو ربما قراءة صانع الانقلاب – بأن سيطرة المليشيا على البلاد أصبحت مسألة وقت.

لذلك جاءت الوثيقة معبّرة عن التوافق على إقامة سلطات مدنية وحماية المدنيين وفتح مسارات آمنة للحركة والتنقل، وتعهدت فيها المليشيا بعدة التزامات، أبرزها فتح ممرات آمنة لوصول المساعدات الإنسانية في مناطق سيطرتها، وتهيئة الظروف لعودة المواطنين إلى منازلهم في المناطق المتأثرة بالحرب، بما في ذلك ولاية الجزيرة التي تستباح في هذه الأيام. لكن، وبعد مرور عشرة أشهر على هذه الوثيقة، ما زالت الأوضاع تزداد سوءاً وتعقيداً ولم يُنفذ أيٌّ من بنودها.

يعتبر مراقبون وثيقة إعلان أديس أبابا شكّلت حملاً سياسياً وأخلاقياً كبيراً على تنسيقية “تقدُّم”، بل كادت تعصف بوحدتها، إذ أنها لم تدفع اتجاهات السلام أو تُلزم المليشيا بتعهداتها التي قطعتها لحماية المدنيين أو السماح بدخول المساعدات الإنسانية، أو حتى تهيئة الظروف لعودة المواطنين كما نصت الوثيقة، بل زادت الانتهاكات وتضاعفت معدلات التهجير القسري

هذا ما يدفعنا إلى طرح سؤال مهم: إذا كانت تنسيقية “تقدُّم”، بقيادة عبد الله حمدوك، تملك قرارها ولا تخضع لإرادة دولية أو إقليمية متحكمة في الحرب، فلماذا لا تعيد النظر في جدوى شراكتها مع مليشيا الدعم السريع بعد تخليها عن الالتزام بالوثيقة؟ ولماذا تشير في بيانها في هذا التوقيت إلى ضرورة التزام المليشيا باتفاق جدة لحماية المدنيين، وهو اتفاق مهم بحسب خبراء ، كما يعد مدخلاً لإنهاء الحرب، رغم أن المليشيا ترفض الالتزام به أساساً؟ بالمقابل، ظلّت “تقدُّم” في أوقات سابقة غير متحمسة لتنفيذه، بل أبدت تحفظاً عليه لأسباب عديدة، منها أنه لم يتضمن إشارة إلى عملية سياسية. وهذا ما ظلّت “تقدُّم” تتخوّف منه، حتى بعد تبني مؤتمر القاهرة للأحزاب والاتحاد الأفريقي مسار العملية السياسية منفصلة قائم على الحوار السوداني-السوداني داخل البلاد.

لذلك، كان الأجدى أن تعيد “تقدُّم” النظر في اتفاق هي طرف فيه، بدلاً من اتفاق ظلت تتحفظ عليه باعتبار أنه يقر التخلص من المليشيا عبر آليات التسريح وإعادة الدمج وفق معايير الجيش السوداني ولا يتحدث عن عملية سياسية، هذا يدفعنا إلى القول: أن حديث “تقدُّم” في بيانها عن اتفاق جدة ربما يشير إلى وجود تفاهمات مع أطراف إقليمية أو دولية تعمل على طي ملف المليشيا لصالح السلام، وحتى يبدو موقفها منسجماً مع بقية الأحزاب .

هناك حديث متداول عن اجتماعات تُجرى في القاهرة هذه الأيام بين الأحزاب السياسية السودانية بهدف إيجاد مقاربة لوقف الحرب والانتقال إلى اليوم التالي. هذه المساعي ربما تؤيدها البيانات المتسقة الصادرة ضد مليشيا الدعم السريع التي أصدرتها عدد من الأحزاب السياسية السودانية وحركات الكفاح المسلح، والتي نددت فيها بالأحداث في ولاية الجزيرة، ومنها الحزب الشيوعي، التيار الإسلامي العريض، حزب الأمة بقيادة مبارك الفاضل، حزب الأمة القومي، الحزب الاتحادي الديمقراطي، وحركات الكفاح المسلح؛ جميعها أدانت انتهاكات مليشيا الدعم السريع والمجازر التي ارتكبتها في قرى ولاية الجزيرة.
بناءً على ذلك، يمكن القول إن الإدانة الواضحة من الأحزاب، التي شهدت إجماعاً لأول مرة تجاه انتهاكات مليشيا الدعم السريع، تمثل تحولاً مهماً في الموقف السياسي للأحزاب، وقد تسهم في تعزيز الحوار الوطني وتحقيق السلام والاستقرار في البلاد.
إذاً، فنحن أمام معطيات جديدة قد تُحدِث مقاربة استراتيجية في وحدة الرأي الذي يجمع على إدانة الدعم السريع، وربما تشكل هذه المقاربة عنواناً جديداً في الساحة السياسية في مقبل الأيام، بالنظر إلى الخطوات المتسارعة التي يمضي بها الجيش تجاه تحرير المدن واستعادة السيطرة التي اربكت حسابات الأحزاب السياسية الداعمة للمليشيا . عليه، يظل وجه الحقيقة في أهمية الاصطفاف الوطني لتجاوز مأزق الحرب بعيداً عن الصراعات الصفرية بين الأحزاب. كما نأمل في انتصارات حاسمة للجيش يحقق بموجبها السلام العادل للسودانيين ويستعيد الأمن والطمأنينة.
دمتم بخير وعافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى