حلم العودة للزمن الجميل.. بقلم البروفيسور.. هشام عباس زكريا
لم نضع في كل السيناريوهات أن تصل بلادنا الحبيبة السودان على ما هي عليه الآن، فالإنسان السوداني ظل على مر التاريخ أنموذجاً للتعايش والتسامح، وظللنا نفاخر بذلك للشعوب الأخرى أننا نقطع الطريق لتقديم الطعام، وصدح المغني الشعبي (يا ضال الطريق، ميًل على أهل القرى، مين الزينا!)، والأستاذ الحلفاوي جعفر محمد عثمان خليل يسافر من مدينته وادي حلفا ويعمل معلماً في (الدلنج) ويكتب قصيدته الشهيرة (تبلدية) التي كانت شامخة وسط منزله:
ذكرى وفاءٍ وودِّ عندي لبنت التبلدي
في كلّ خفقة قلبٍ وكلّ زفرة وجدي
فيا ابنة الروض ماذا جرى لمغناك بعدي؟
مازلتِ وحدك إلفي يا ليتني لك وحدي
هل تذكرين عهوداً قد عشتها في جنابك؟
وهل شـــجـــاك غيــــــابي؟ إنّي شجٍ لغيابك
مازلت في البــــــــعد أحيا كأنني في رحابك
هذا شبـــابي يولي فكيــــف حال شبابك
ما ربط بين (وادي حلفا) و(الدلنج) هو ذلكم الحب السوداني الذي تجاوز حدود القبيلة والمدينة إلى فضاء الوطن الكبير.
والشاعر محمد سعيد العباسي تأسره طبيعة مدينة مليط فيقول فيها:
حيّاكِ «ملّيطُ» صوبُ العارضِ الغادي… وجاد واديكِ ذا الجنّاتِ من وادِ
فكم جلوتِ لنا من منظرٍ عَجَبٍ…. يُشجي الخليَّ ويروي غُلّةَ الصادي
أنسَيْتِني بَرْحَ آلامي وما أخذتْ….. منا المطايا بإيجافٍ وإيخاد
كثبانُكِ العفرُ ما أبهى مناظرَها…. أُنسٌ لذي وحشةٍ، رِزقٌ لمرتاد
فباسقُ النخلِ ملءُ الطرفِ يلثم من ذيلِ السحابِ بلا كدٍّ وإجهاد
كأنه ورمالاً حوله ارتفعتْ…. أعلامُ جيشٍ بناها فوق أطواد
وأتذكر أن هذه القصيدة كانت مقررة علينا كاملة ونحن طلبة في المرحلة المتوسطة، فعرفتنا باكراً ونحن صغار بدارفور وطبيعتها.
إن البداية للخروج من الأزمة السودانية تبدأ من إعادة المجتمع إلى طبيعته وبناء مناهج تربوية ودراسية توحد جغرافيا الوجدان، وتعزز قيم المواطنة والانتماء للوطن الكبير وفق القيم السودانية المتوارثة من حب للأرض والتضحية من أجلها، ثم تأتي المرحلة الثانية وهي بناء المشاريع الكبيرة وإعادة تأهيلها مثل السكة الحديد ومشروع الجزيرة والموانئ وغير ذلك.
لقد نشأنا في منازل أحياء السكة الحديد ودرسنا في مدارسها ، وتجولنا في مدن عديدة من السودان، وجاورنا عائلات أصبحت أقرب من الأهل تعود جذورها إلى الشرق والغرب والوسط والشمال والجنوب، وأصبحت مائدتنا هي كل الأكلات التي جاءت من هذه المناطق، وانتجت السكة الحديد مدن جديدة مثل بورتسودان وعطبرة وكوستي وبابنوسة ونيالا ،فتجاوز سكانها مفهوم القبيلة إلى الحياة المدنية، وجاء مجتمع جديد كان يمكن أن يقود السودان لولا السقطات السياسية التي ترجعنا إلى البدايات، فمشروع الجزيرة مثلاً أنتج مجتمعاً راقياً في مدينة ود مدني وما حولها، حيث تجمعت مجموعات بشرية من كافة أنحاء البلاد ،كان يمكن أن تكون نقطة قوة، غير أن السياسات لم تذهب في الاستثمار الايجابي لهذه التجمعات فأهملت المشروع، ولم تطوره بحيث تقوم مصانع للأغذية ومطارات للتصدير في أرض تعد من أخصب أراضي العالم، وصارت مدن مثل الفاشر ونيالا والجنينة أكبر تجمعات مدنية استوعب مجموعات بشرية من كل قبائل السودان فجاء الحكم الفدرالي وطُبق بصورة مشوهة ليمنع التواصل الإداري والوظيفي والتعليمي بين الولايات.
إن الأزمة التي يعيش فيها السودان جزء منها غياب النخب السياسية والثقافية والاجتماعية وبروز ما يُسمى بالنشطاء في وسائل التواصل الاجتماعي الذين يصبون الزيت على النار، ويعمقون الكراهية والعنصرية، ويبثون الجهل، وللأسف أصبحوا قادة للرأي، فبعضهم يقابلهم الشباب في المطارات عند قدومهم البلاد رغم عباراتهم البذيئة ويحتفون بهم، وهذا مؤشر خطير يشير إلى سيطرة الثقافة الهابطة وبروز ما يمكن تسميته ب(نجومية الهابطين)،والحل في تقديري هو إدماج مقررات الاتصال الإيجابي في المناهج التربوية وتحكيم القوانين ،حيث يعد السودان هو الدولة الوحيدة في العالم التي لا تحتكم على قوانين لوسائل التواصل الاجتماعي ،ولقد كتبنا عن ذلك كثيراً قبل الحرب، ولكن لا حياة لمن تنادي.
ثم تأتي الخطوة الثانية وهي تطبيق حكم فيدرالي غير مترهل يقوم على خمسة أقاليم يتيح التواصل الإداري والاجتماعي والثقافي وفق سياسات تحقق الوحدة وتدعم احتياجات كل إقليم بما يحقق التنمية المتوازنة، وذلك يتطلب حكومات واعية نزيهة تعرف جيدا استثمار إمكانيات السودان وتوظف طاقات الشباب، وهذا بدوره يتطلب شعب واعي هدفه العمل والبناء والازدهار.
إن الحرب التي يعيشها السودان الآن حتماً ستنتهي يوماً ما، ولا بد من أخذ العبر والعظات منها، وأول ذلك تعديل السلوك الإنساني، وقبول الآخر، والتعايش في سلام، وتعميق قيمة تقديس المؤسسات العامة، وتحويل التماسك الاجتماعي والتآزر الذي اشتهرنا به ليدخل قاموس العمل والإنتاج، فنحن نجيد المجاملات والوقوف مع بعضنا البعض اجتماعياَ، لكننا فشلنا في إدارة العمل الجماعي على مستوى المؤسسات والمشاريع التي يجهضها دوماً الخلافات وعدم الاحتكام إلى القوانين، وهذا يتطلب أن تكون هذه القيم موجودة في مناهجنا التعليمية والتربوية.
أكتب ذلك في زمن نحلم فيه بعودة الأمن والاستقرار ليبدأ التفكير في التطور والتنمية.
ولنا عودة